فصل: فَصْلٌ: في التَّأْبِيدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: إسْلَامُ الرَّجُلِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً:

وَمِنْهَا إسْلَامُ الرَّجُلِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً فَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وَلِأَنَّ فِي إنْكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ فِي الدِّينِ إلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ} لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إلَى النَّارِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ، وَهِيَ الدُّعَاءُ إلَى النَّارِ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ، أَجْمَعَ فَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ فَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُسْلِمَةِ الْكِتَابِيَّ كَمَا لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا الْوَثَنِيَّ وَالْمَجُوسِيَّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ وَلَايَةَ الْكَافِرِينَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فَلَوْ جَازَ إنْكَاحُ الْكَافِرِ الْمُؤْمِنَةَ لَثَبَتَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَجَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ لِلنِّكَاحِ فِي الْإِسْلَامِ شَرَائِطَ لَا يُرَاعُونَهَا فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَتَهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةً لَمْ تَكُنْ امْرَأَتَهُ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سُنَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُمْ عَلَى شَرِيعَتِهِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ».
وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ قَبِيحٍ وَهُوَ الطَّعْنُ فِي نَسَبِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ وُلِدُوا مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ، وَالْمَذَاهِبُ تُمْتَحَنُ بِعُبَّادِهَا فَلَمَّا أَفْضَى إلَى قَبِيحٍ عُرِفَ فَسَادُهَا.
وَيَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ كَمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ إذْ هُوَ تَكْذِيبُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا فِيمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وَاخْتِلَافُهُمْ فِي شَرَائِعِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نِكَاحِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ كَذَا هَذَا.

.فَصْلٌ: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِلْكَ صَاحِبِهِ:

وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِلْكَ صَاحِبِهِ وَلَا يَنْتَقِصَ مِنْهُ مِلْكَهُ، فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَتِهِ وَلَا بِجَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَبْدَهَا وَلَا الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الْآيَةَ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْوَطْءَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِبَاحَةُ بِهِمَا جَمِيعًا؛ وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ حُقُوقًا تَثْبُتُ عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
مِنْهَا: مُطَالَبَةُ الْمَرْأَةِ الزَّوْجَ بِالْوَطْءِ وَمُطَالَبَةُ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ بِالتَّمْكِينِ، وَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَمْنَعُ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ فِي ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ لَا يُفِيدُ النِّكَاحُ فَلَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَمَتِهِ وَلَا عَلَى الْحُرَّةِ لِعَبْدِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْوَلَايَةُ لِلْمَالِكِ، وَكَوْنُ الْمَمْلُوكِ يُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَايَةِ لِلْمُلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالِيًا وَمُولَيًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا مُحَالٌ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ عِنْدَنَا، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ وَلَا لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُدَبَّرَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا مَلَكَهُ، فَكَذَا إذَا اعْتَرَضَ مِلْكُ الْيَمِينِ عَلَى نِكَاحٍ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِأَنْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لِمَا نَذْكُرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي مَوْضِعِهِ.

.فَصْلٌ: في التَّأْبِيدِ:

وَمِنْهَا التَّأْبِيدُ فَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أُعْطِيكِ كَذَا عَلَى أَنْ أَتَمَتَّعَ مِنْكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ جَائِزٌ وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِمْتَاعَ وَلَمْ يَذْكُرْ النِّكَاحَ، وَالِاسْتِمْتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ وَاحِدٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ، وَحَقِيقَةُ الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ، فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ فَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ، وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} حَرَّمَ تَعَالَى الْجِمَاعَ إلَّا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ، وَالْمُتْعَةُ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ أَنَّهَا تَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا فُرْقَةٍ وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ فَلَمْ تَكُنْ هِيَ زَوْجَةً لَهُ، وقَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} سُمِّيَ مُبْتَغِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَادِيًا، فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِدُونِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إجَازَةَ الْإِمَاءِ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ بِغَاءً فَدَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ» وَعَنْ سَمُرَةَ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ»، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ».
وَرُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَهُوَ يَقُولُ: إنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْمُتْعَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُفَارِقْهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ بِأَسْرِهِمْ امْتَنَعُوا عَنْ الْعَمَلِ بِالْمُتْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْحَاجَةِ لَهُمْ إلَى ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ لِاقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ لِأَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهَا، وَاقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُتْعَةِ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَلَا يُشْرَعُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} أَيْ: فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا هُوَ النِّكَاحُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَجْنَاسًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ فِي النِّكَاحِ، وَأَبَاحَ مَا وَرَاءَهَا بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}
أَيْ: بِالنِّكَاحِ، وقَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أَيْ: غَيْرَ مُتَنَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} ذَكَرَ النِّكَاحَ لَا الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ، فَيُصْرَفُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} إلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَمَّى الْوَاجِبَ أَجْرًا فَنَعَمْ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ يُسَمَّى أَجْرًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ: مُهُورَهُنَّ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} وَقَوْلُهُ: أَمَرَ تَعَالَى بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَيُؤْخَذُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ قُلْنَا: قَدْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى: قَالَ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ، أَيْ: إذَا أَرَدْتُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ: إذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ، وَرَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} نَسَخَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُتْعَةُ بِالنِّسَاءِ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ، وَالصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمَوَارِيثُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النِّكَاحُ، أَيْ: النِّكَاحُ هُوَ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْمُتْعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الثَّانِي:
فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: (النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَهُوَ مُؤَبَّدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ)، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا ذَكَرَا مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارَ مَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ ذَكَرَا مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارَ مَا لَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فِي الْغَالِبِ يَجُوزُ النِّكَاحُ كَأَنَّهُمَا ذَكَرَا الْأَبَدَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا كَمَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك إلَى أَنْ أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لَكَانَ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَقَّتًا بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَبَّدًا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْمُتْعَةِ إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ مَعَانِيهَا لَا الْأَلْفَاظُ كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ إنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُهَا وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِحْقَاقَ الْبُضْعِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَتَى بِالنِّكَاحِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ شَرْطًا فَاسِدًا فَمَمْنُوعٌ بَلْ أَتَى بِنِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ، وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ وَصَارَ هَذَا كَالنِّكَاحِ الْمُضَافِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُقَالُ: يَصِحُّ النِّكَاحُ وَتَبْطُلُ الْإِضَافَةُ؛ لِأَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ نِكَاحٌ مُضَافٌ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَبَّدَ النِّكَاحَ ثُمَّ شَرَطَ قَطْعَ التَّأْبِيدِ بِذِكْرِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَنَّ أَنْ كَلِمَةُ شَرْطٍ، وَالنِّكَاحُ الْمُؤَبَّدُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: في الْمَهْرِ:

وَمِنْهَا الْمَهْرُ فَلَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَهْرِ عِنْدَنَا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمَهْرَ هَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْلُحُ مَهْرًا، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَبَيَانِ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ، وَبَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ كُلُّ الْمَهْرِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْكُلُّ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ النِّصْفُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَهْرِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ.
الْمَهْرَ شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ النِّكَاحُ بِدُونِ الْمَهْرِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا بِأَنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا حَتَّى يَثْبُتَ لَهَا وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ.
وَلَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ يُؤْخَذُ مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْفَرْضِ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْفَرْضِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَقَبْلَ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ.
وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجَانِ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُقْضَى لِوَرَثَتِهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} رَفَعَ سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِلَا تَسْمِيَةٍ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وَالْمُرَادُ مِنْهُ الطَّلَاقُ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ بِقَوْلِهِ: {فَمَتِّعُوهُنَّ}، وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَلِأَنَّهُ مَتَى قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَهْرِ كَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْمَهْرِ ضَرُورَةً احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} سَمَّى الصَّدَاقَ نِحْلَةً، وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ هِيَ الصِّلَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمَهْرَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَلَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ ازْدِوَاجٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ إلَّا عَنْهُ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا، وَحِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ تَحْقِيقًا لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ عَلَيْهَا نَوْعُ مِلْكٍ فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ ضَرُورَةً تُحَقِّقُ الْمَقَاصِدَ وَلَا ضَرُورَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَهْرِ لَهَا عَلَيْهِ، فَكَانَ الْمَهْرُ عُهْدَةً زَائِدَةً فِي حَقِّ الزَّوْجِ صِلَةً لَهَا فَلَا يَصِيرُ عِوَضًا إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ.
وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِغَيْرِ مَهْرٍ جَازَ النِّكَاحُ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ.
وَكَذَا إذَا مَاتَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أُحِلَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِشَرْطِ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ دَلَّ أَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَالِ فَإِنْ قِيلَ: الْإِحْلَالُ بِشَرْطِ ابْتِغَاءِ الْمَالِ لَا يَنْفِي الْإِحْلَالَ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِكُمْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِشَرْطٍ لَا يَنْفِي وُجُودَهُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ هُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْإِبَاحَةُ تَثْبُتُ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ تَبْقَى الْحُرْمَةُ عَلَى الْأَصْلِ لَا حُكْمًا لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يَتَنَاقَضْ أَصْلُنَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ شَهْرًا يَسْأَلُهُ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ فِي الْجَوَابِ فَلَمَّا تَمَّ الشَّهْرُ قَالَ لِلسَّائِلِ: لَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، فَإِنْ أَصَبْت فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ أَخْطَأْت فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ وَفِي رِوَايَةٍ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ أَرَى لَهَا مِثْلَ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ وَقَالَ: إنِّي أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيِّةِ مِثْلَ قَضَائِك هَذَا ثُمَّ قَامَ أُنَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَقَالُوا: إنَّا نَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِ فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَحًا لَمْ يَفْرَحْ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ لِمُوَافَقَةِ قَضَائِهِ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»،.
وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَمْ يُشْرَعْ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَقَاصِدَ لَا حُصُولَ لَهَا إلَّا بِالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُومُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْمِلُ الزَّوْجَ عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ الْوَحْشَةِ، وَالْخُشُونَةِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يُبَالِي الزَّوْجُ عَنْ إزَالَةِ هَذَا الْمِلْكِ بِأَدْنَى خُشُونَةٍ تَحْدُثُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ لَمَّا لَمْ يَخَفْ لُزُومَ الْمَهْرِ فَلَا تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ وَمَقَاصِدَهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَزِيزَةً مُكَرَّمَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِانْسِدَادِ طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَيْهَا إلَّا بِمَالٍ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا ضَاقَ طَرِيقُ إصَابَتِهِ يَعِزُّ فِي الْأَعْيُنِ فَيَعِزُّ بِهِ إمْسَاكُهُ، وَمَا يَتَيَسَّرُ طَرِيقُ إصَابَتِهِ يَهُونُ فِي الْأَعْيُنِ فَيَهُونُ إمْسَاكُهُ وَمَتَى هَانَتْ فِي أَعْيُنِ الزَّوْجِ تَلْحَقُهَا الْوَحْشَةُ فَلَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فَلَا تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فِي جَانِبِهَا إمَّا فِي نَفْسِهَا وَإِمَّا فِي الْمُتْعَةِ، وَأَحْكَامُ الْمِلْكِ فِي الْحُرَّةِ تُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ فلابد وَأَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ لَهُ خَطَرٌ لِيَنْجَبِرَ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا وَفَسَادِ مَا قَالَ: أَنَّهَا إذَا طَلَبَتْ الْفَرْضَ مِنْ الزَّوْجِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ، فَالْقَاضِي يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي الْفَرْضِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ تَقْدِيرٌ وَمِنْ الْمُحَالِ وُجُوبُ تَقْدِيرِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَكَذَا لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا حَتَّى يُفْرَضَ لَهَا الْمَهْرُ وَيُسَلَّمَ إلَيْهَا بَعْدَ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالنِّحْلَةُ كَمَا تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الدِّينِ يُقَالُ: مَا نِحْلَتُك؟ أَيْ: مَا دِينُكَ؟ فَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} أَيْ: دِينًا أَيْ: انْتَحِلُوا ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ دِينًا فَيَقَعُ الِاحْتِمَالُ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: النِّكَاحُ يُنْبِئُ عَنْ الِازْدِوَاجِ فَقَطْ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ شُرِعَ لِمَصَالِحَ لَا تَصْلُح إلَّا بِالْمَهْرِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْمِلْكِ أَيْضًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَصَالِحُ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ ثَبَتَ تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ كَذَا الْمَهْرُ.
وَأَمَّا الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ ثُمَّ يَسْقُطُ، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ هُوَ جَوَازُ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَجِبُ الْمَهْرُ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَجِبُ أَيْضًا إلَّا أَنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ حَتَّى إنَّهُمَا لَوْ تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا الْمَهْرَ.
وَكَذَا إذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ يُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا لَا يُقْضَى لِوُجُودِ الِاسْتِيفَاءِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمَا مَعًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا الْغَالِبُ مَوْتُهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ أَوْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْبَعْضِ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ نِسَائِهَا مَنْ يُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ وَرَثَةَ عَلِيٍّ ادَّعَوْا عَلَى وَرَثَةِ عُمَرَ مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَكُنْتُ أَقْضِي بِهِ؟ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.

.فَصْلٌ: أَدْنَى مِقْدَارٍ لِلْمَهْرِ:

وَأَمَّا بَيَانُ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَدْنَاهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمَهْرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَتَصْلُحُ الدَّانِقُ وَالْحَبَّةُ مَهْرًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى فِي نِكَاحٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ طَعَامًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا فَقَدْ اسْتَحَلَّ» وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْمَهْرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَهُوَ حَقُّ الْمَرْأَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا، فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ إلَى الْعَاقِدَيْنِ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَالًا.
وَالْحَبَّةُ وَالدَّانِقُ وَنَحْوُهُمَا لَا يُعَدَّانِ مَالًا فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لِأَنَّهُ بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمِقْدَارِ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ إثْبَاتُ الِاسْتِحْلَالِ، إذَا ذُكِرَ فِيهِ مَالٌ قَلِيلٌ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةً.
وَعِنْدَنَا الِاسْتِحْلَالُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ شَيْءٍ أَصْلًا؟، فَعِنْدَ تَسْمِيَةِ مَالٍ قَلِيلٍ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ عَشَرَةً، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ.
وَعِنْدَنَا قَامَ دَلِيلُ الزِّيَادَةِ إلَى الْعَشَرَةِ لِمَا نَذْكُرُ فَيُكَمَّلُ عَشَرَةً وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رُوِيَ مِنْ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِثْلَ وَزْنِ دِينَارٍ بَلْ تَكُونُ أَكْثَرَ فِي الْعَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّ قِيمَةَ النَّوَاةِ كَانَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَوِّمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَنَّهُ مَنْ كَانَ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ مَنْ هُوَ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ النَّوَاةَ كَانَ بَلَغَ وَزْنُهَا قِيمَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَبِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا فِي الْمَهْرِ لَا أَصْلَ الْمَهْرِ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعْجِيلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي حَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ جَائِزًا بِغَيْرِ مَهْرٍ إلَى أَنْ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشِّغَارِ».
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْمَهْرَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ إلَى الْعَبْدِ فَنَقُولُ نَعَمْ هُوَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ حَقُّهَا عَلَى الْخُلُوصِ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الثُّبُوتِ فَحَقُّ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْبُضْعِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ شُبْهَةِ الِابْتِذَالِ بِإِيجَابِ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ يُكَمَّلُ عَشَرَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ كَمَا لَوْ سَمَّى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ لِمَا كَانَ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْلُحُ مَهْرًا فِي الشَّرْعِ هُوَ الْعَشَرَةُ كَانَ ذِكْرُ بَعْضِ الْعَشَرَةِ ذِكْرًا لِلْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهَا مَهْرًا لَا يَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ يَكُونُ ذِكْرًا لِكُلِّهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَتَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ فَنَقُولُ: التَّسْمِيَةُ إنَّمَا تَفْسُدُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسَمَّى مَالًا أَوْ كَانَ مَجْهُولًا، وَهَاهُنَا الْمُسَمَّى مَالٌ، وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِنَفْسِهِ إلَّا بِغَيْرِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِمَا هُوَ الْأَدْنَى مِنْ الْمُصْلَحِ بِنَفْسِهِ، وَفِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْعَدَمِ، وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ أَيْضًا فَكَانَ أَحَقَّ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَصْلُحْ مَهْرًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ فَوَجَبَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ- وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ- وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى مَوْصُوفٍ أَوْ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ فَذَلِكَ مَهْرُهَا إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ لَا يَوْمَ التَّسْلِيمِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ عَشَرَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةً فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ ثَمَانِيَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً فَلَهَا ذَلِكَ وَدِرْهَمَانِ.
وَذَكَرَ الْحُسَيْنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَبَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَقَالَ فِي الثَّوْبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّسْلِيمِ، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يُعْقَلُ لَهُ وَجْهٌ فِي الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُعَيَّنِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْصُوفِ أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ إذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، فَالزَّوْجُ مَجْبُورٌ عَلَى دَفْعِهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا فَكَانَ مُسْتَقِرًّا مَهْرًا بِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِاسْتِقْرَارِ- وَهُوَ يَوْمُ الْعَقْدِ- فَأَمَّا الثَّوْبُ- وَإِنْ وُصِفَ- فَلَمْ يَتَقَرَّرْ مَهْرًا فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ بَلْ الزَّوْجُ مُخَيَّرٌ فِي تَسْلِيمِهِ وَتَسْلِيمِ قِيمَتِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ مَهْرًا بِالتَّسْلِيمِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّسْلِيمِ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا جُعِلَ مَهْرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا التَّغَيُّرُ فِي رَغَبَاتِ النَّاسِ بِحُدُوثِ فُتُورٍ فِيهَا، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ شَيْئًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَيُعْتَبَرُ سِعْرُهُ، وَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَةً فَرَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّى مَا هُوَ أَدْنَى مَالِيَّةٍ مِنْ الْعَشَرَةِ كَانَ ذَلِكَ تَسْمِيَةً لِلْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ ثُمَّ ازْدَادَتْ، قِيمَتُهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَمَا لَا يَصِحُّ وَبَيَانُ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا فَنَقُولُ: لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ شَرَائِطُ مِنْهَا.
أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ التَّسْمِيَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَهَبْت نَفْسِي لَك فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا بِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَامَ رَجُلٌ وَقَالَ زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عِنْدَك؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيهَا فَقَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ مَا عِنْدِي، فَقَالَ: هَلْ مَعَك شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا فَقَالَ زَوَّجْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى- وَهُوَ السُّورَةُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يُوصَفُ بِالْمَالِيَّةِ، فَدَلَّ أَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مَالًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَالًا، فَمَا لَا يَكُونُ مَالًا لَا يَكُونُ مَهْرًا فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا، وقَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أَمَرَ بِتَنْصِيفِ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الْمَفْرُوضِ مُحْتَمِلًا لِلتَّنْصِيفِ- وَهُوَ الْمَالُ- وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ فِي حَدِّ الْآحَادِ وَلَا يُتْرَكُ نَصُّ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ مَا أَنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ مَهْرًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَأْوِيلُهَا زَوَّجْتُكهَا بِسَبَبِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ وَبِحُرْمَتِهِ وَبَرَكَتِهِ لَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَالٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: إذَا تَزَوَّجَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَوْ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَهْرًا ثُمَّ الْأَصْلُ فِي التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا إذَا صَحَّتْ وَتَقَرَّرَتْ يَجِبُ الْمُسَمَّى ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسَمَّى عَشَرَةً فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ الْعَشَرَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَإِذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ أَوْ تَزَلْزَلَتْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْبُضْعِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ، تَقْدِيرًا لِتِلْكَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ أَوْ تَزَلْزَلَتْ لَمْ يَصِحَّ التَّقْدِيرُ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّقْدِيرُ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا بِالثَّمَنِ كَذَا هَذَا، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَا يَقِفُ عَلَى التَّسْمِيَةِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا، فَعَدَمُ التَّسْمِيَةِ إذًا لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ النِّكَاحِ فَفَسَادُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا فَسَدَتْ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، وَهُنَاكَ النِّكَاحُ صَحِيحٌ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَسَادَ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِمَكَانِ الرِّبَا، وَالرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى النِّكَاحُ صَحِيحًا.
وَعِنْدَهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَصِيرُ الْمَذْكُورُ مَهْرًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ وَكَذَا الْقِصَاصُ، وَعِنْدَهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ الطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ، لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ، وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ لَيْسَا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَهْرًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ لِآخَرَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ أُخْتَهُ، أَوْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ أَوْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرَ الْأُخْرَى، وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِمَا قُلْنَا: وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَاسِدٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ»، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ نِكَاحًا وَصَدَاقًا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُؤَبَّدٌ أَدْخَلَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا حَيْثُ شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرَ الْأُخْرَى، وَالْبُضْعُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَعَلَى أَنْ يَنْقُلَهَا مِنْ مَنْزِلِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ فِي بُضْعٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْبُضْعِ صَدَاقًا لَمْ يَصِحَّ.
فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، فَنِكَاحُ الشِّغَارِ هُوَ النِّكَاحُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَغَرَ الْبَلَدُ إذَا خَلَا عَنْ السُّلْطَانِ وَشَغَرَ الْكَلْبُ إذَا رَفَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ.
وَعِنْدَنَا هُوَ نِكَاحٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَا يَكُونُ شِغَارًا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَنْ عَيْنِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَلَا يُحْتَمَلُ النَّهْيُ عَنْ إخْلَاءِ النِّكَاحِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرٌ»، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّهْيَ لِمَكَانِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَا لِعَيْنِ النِّكَاحِ فَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا.
وَلَوْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا سَنَةً، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا قِيمَةُ خِدْمَةِ سَنَةٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا خِدْمَةُ سَنَةٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً أَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَهَا رَعْيُ غَنَمِهَا سَنَةً، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ كَمَا لَا تَصِحُّ فِي الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ رَعْيَ غَنَمِهَا خِدْمَتُهَا، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ فِي رَعْيِ غَنَمِهَا رِوَايَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي خِدْمَتِهِ لَهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَخْدِمَهَا سَنَةً أَنْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْمُسَمَّى، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا، وَمَنَافِعُ الْحُرِّ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْحُرِّ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا كَمَا تَصِحُّ تَسْمِيَةُ مَنَافِعِ الْعَبْدِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا، فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ مَالٌ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ حَتَّى يَجُوزَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فَكَذَا فِي النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَتْ مَالًا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ لِمَا فِي التَّسْلِيمِ مِنْ اسْتِخْدَامِ الْحُرَّةِ زَوْجَهَا، وَأَنَّهُ حَرَامٌ لِمَا نَذْكُرُ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قِيمَةِ الْخِدْمَةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْعَبْدِ قَدْ صَحَّتْ لِكَوْنِهِ مَالًا لَكِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِمَا قُلْنَا: كَذَا هَذَا.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ التَّقَوُّمِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ شَرْعًا ضَرُورَةً؛ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ بِهَا وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِهَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ الْحُرَّةِ زَوْجَهَا الْحُرَّ حَرَامٌ؛ لِكَوْنِهِ اسْتِهَانَةً وَإِذْلَالًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَبَاهُ لِلْخِدْمَةِ فَلَا تَسْلَمُ خِدْمَتُهُ لَهَا شَرْعًا، فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا التَّقَوُّمُ فَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ سَمَّى مَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهُنَاكَ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَذَا هاهنا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسَمَّى فِعْلًا لَا اسْتِهَانَةَ فِيهِ وَلَا مَذَلَّةَ عَلَى الرَّجُلِ، كَرَعْيِ دَوَابِّهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهَا، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي خَارِجُ الْبَيْتِ تَصِحُّ بِالتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهَا لَا مِنْ بَابِ الْخِدْمَةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ زَوْجَتِهِ إيَّاهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلِاسْتِخْدَامِ وَالِابْتِذَالِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا مُلْحَقًا بِالْبَهَائِمِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ فَكَانَ لَهَا فِي خِدْمَتِهِ حَقٌّ، فَإِذَا جَعَلَ خِدْمَتَهُ لَهَا مَهْرَهَا، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ مَا هُوَ لَهَا مَهْرَهَا فَلَمْ يَجُزْ كَالْأَبِ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ بِخِدْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَنَافِعِ سَائِرِ الْأَعْيَانِ مِنْ سُكْنَى دَارِهِ وَخِدْمَةِ عَبِيدِهِ وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ أَوْ الْتَحَقَتْ بِالْأَمْوَالِ شَرْعًا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ فِي النِّكَاحِ مُتَحَقِّقَةٌ، وَإِمْكَانُ الدَّفْعِ بِالتَّسْلِيمِ ثَابِتٌ بِتَسْلِيمِ مَحَالِّهَا إذْ لَيْسَ فِيهِ اسْتِخْدَامُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فَجُعِلَتْ أَمْوَالًا وَالْتَحَقَتْ بِالْأَعْيَانِ فَصَحَّتْ تَسْمِيَتُهَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَأَشَارَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا.
وَأَمَّا إنْ سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَشَارَ إلَى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا، فَإِنْ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَأَشَارَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ أَوْ عَلَى هَذِهِ الشَّاةِ الذَّكِيَّةِ، فَإِذَا هِيَ مَيْتَةٌ أَوْ عَلَى هَذَا الزِّقِّ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِي الْكُلِّ، وَعَلَيْهِ فِي الْحُرِّ قِيمَةُ الْحُرِّ لَوْ كَانَ عَبْدًا، وَفِي الشَّاةِ قِيمَةُ الشَّاةِ لَوْ كَانَتْ ذَكِيَّةً، وَفِي الْخَمْرِ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّنِّ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فَقَالَ: مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ، وَمِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْخَمْرِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ الْعَبْدُ وَالشَّاةُ الذَّكِيَّةُ وَالْخَلُّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَالٌ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ خِلَافَ جِنْسِ الْمُسَمَّى فِي صَلَاحِيَّةِ الْمَهْرِ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْحُرِّ وَالشَّاةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ، وَفِي الْخَمْرِ يَجِبُ مِثْلُهُ خَلًّا؛ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمُسَمَّى أَوْ اُسْتُحِقَّ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي الْعُقُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى هَذَا أَصْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ، وَالْحُرُّ مِنْ جِنْسِ الْعَبْدِ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ.
وَكَذَا الشَّاةُ الْمَيْتَةُ مِنْ جِنْسِ الشَّاةِ الذَّكِيَّةِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ وَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَصَارَ كَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ وَلَمْ يُسَمِّ بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا وَسَكَتَ فَأَمَّا الْخَلُّ مَعَ الْخَمْرِ فَجِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى لَكِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ وَهُوَ مِثْلِيٌّ فَيَجِبُ مِثْلُهُ خَلًّا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِشَارَةَ وَالتَّسْمِيَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضِعَتْ لِلتَّعْرِيفِ إلَّا أَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهَا تُحْضِرُ الْعَيْنَ وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، وَالتَّسْمِيَةُ لَا تُوجِبُ إحْضَارَ الْعَيْنِ وَلَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَلَمْ يُسَمِّ، وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا حُرٌّ سَمَّى عَبْدًا، وَتَسْمِيَةُ الْحُرِّ عَبْدًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ بِالْعَدَمِ أَيْضًا فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَهَذَا فِقْهٌ وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا إذَا سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَأَشَارَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَمَّا إذَا سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَأَشَارَ إلَى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْحُرِّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ أَوْ عَلَى هَذِهِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا هِيَ ذَكِيَّةٌ أَوْ عَلَى هَذَا الدَّنِّ الْخَمْرِ، فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَاسِدَةٌ وَلَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ.
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا حُكْمَ لَهَا مَعَ الْإِشَارَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ لَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ (وَجْهُ) مَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَأَشَارَ إلَى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَقَدْ هَزَلَ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْهَازِلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَتِهِ حُكْمٌ فَبَطَلَ كَلَامُهُ رَأْسًا.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ الْخَمْرِ، وَقِيمَةُ الظَّرْفِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهَا الدَّنَّ لَا غَيْرَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا- وَهُوَ الظَّرْفُ- وَمَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَهُوَ الْخَمْرُ فَيَلْغُو مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْخَلِّ وَالْخَمْرِ، وَقِيمَةُ الْخَلِّ عَشَرَةٌ أَنَّهُ يَكُونُ لَهَا الْخَلُّ لَا غَيْرَ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الظَّرْفَ لَا يُقْصَدُ بِالْعَقْدِ عَادَةً بَلْ هُوَ تَابِعٌ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَظْرُوفُ فَإِذَا بَطَلَتْ التَّسْمِيَةُ فِي الْمَقْصُودِ تَبْطُلُ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَبْدُ الْبَاقِي إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا الْعَبْدُ وَقِيمَةُ الْحُرِّ لَوْ كَانَ عَبْدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُنْظَرُ إلَى الْعَبْدِ إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَهْرَ مِثْلِهَا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا تَبْلُغُ إلَى ثَمَنِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَعْلَ الْحُرِّ مَهْرًا صَحِيحٌ إذَا سَمَّى عَبْدًا، وَيَتَعَلَّقُ بِقِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّيَيْنِ جَمِيعًا بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّعْلِيقَ بِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَيَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِعَيْنِهِ، وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى، فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَالْحُرُّ مِنْ جِنْسِ الْعَبْدِ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِمَا إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَهُ، وَمَتَى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْمُسَمَّى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرَّ إذَا جُعِلَ مَهْرًا وَسُمِّيَ عَبْدًا لَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَتِهِ شَيْءٌ، وَجُعِلَ ذِكْرُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ يَلْغُو مَا لَا يَصْلُحُ وَيَسْتَقِرُّ مَا يَصْلُحُ، كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ وَامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ وَتَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بِمُسَمًّى يَجِبُ كُلُّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْحَلَالِ، وَانْعِقَادُ نِكَاحِهَا صَحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَالتَّسْمِيَةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَتَقْرِيرًا لِلْعَقْدِ فِيمَا أَمْكَنَ تَقْرِيرُهُ وَإِلْغَاؤُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِيهِ، وَالْعَبْدُ هُوَ الصَّالِحُ لِكَوْنِهِ مَهْرًا فَصَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ، وَيَصِيرُ مَهْرًا لَهَا إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً فَصَاعِدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ- وَالْخَادِمُ حُرٌّ- وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الدَّنَّيْنِ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا أَحَدُهُمَا خَمْرٌ لَهَا الْبَاقِي لَا غَيْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَمَا فِي الْعَبْدَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا لَهَا الْبَاقِي وَمِثْلُ هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَصْلَ.
وَلَوْ سَمَّى مَالًا وَضَمَّ إلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَكِنْ لَهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِثْلُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَإِمْسَاكِهَا فِي بَلَدِهَا أَوْ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنْ وَفَّى بِالْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا مَا سَمَّى إذَا كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةً فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِنَفْسِهِ وَشَرَطَ لَهَا مَنْفَعَةً، وَقَدْ وَفَّى بِمَا شَرَطَ لَهَا فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَصَارَتْ الْعَشَرَةُ مَهْرًا، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَا سَمَّى لَهَا مِنْ الْمَالِ مِثْلَ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا سَمَّى لَهَا أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا تَمَّمَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ الْمَضْمُومُ مَالًا كَمَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَهْدِيَ لَهَا هَدِيَّةً فَلَمْ يَفِ لَهَا تَمَّمَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَالٍ كَطَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَأَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا مَا سَمَّى (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُتَقَوَّمُ فَلَا يَكُونُ فَوَاتُهُ مَضْمُونًا بِعِوَضٍ وَمَا هُوَ مَالٌ يُتَقَوَّمُ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا جَازَ لَهَا الرُّجُوعُ إلَى تَمَامِ الْعِوَضِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ اسْتِحْكَامِ التَّسْمِيَةِ فَإِذَا وَفَّى بِالْمَنْفَعَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ التَّسْمِيَةُ فَوَجَبَ الْمُسَمَّى.
وَإِذَا لَمْ يَفِ بِهَا لَمْ تَتَقَرَّرْ؛ لِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ بِالْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِ عِوَضًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِمَنْفَعَةٍ أُخْرَى مَضْمُومَةٍ إلَيْهِ، وَهِيَ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى مَرْغُوبٌ فِيهَا خِلَالَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا تَتَقَرَّرُ التَّسْمِيَةُ فَبَقِيَ حَقُّهَا فِي الْعِوَضِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا قَدْرُ حَقِّهَا وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا يُكَمَّلُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَيْضًا لَا إلَى الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ صَحِيحٍ وَأَرْطَالٍ مِنْ خَمْرٍ أَنَّ الْمَهْرَ مَا يُسَمَّى لَهَا إذَا كَانَ عَشَرَةً فَصَاعِدًا، وَيَبْطُلُ الْحَرَامُ، وَلَيْسَ لَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا قَدْرُ حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا يُكَمَّلُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ لَمْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيهَا لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِفَوَاتِهَا عِوَضٌ فَالْتَحَقَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ إلَّا الْمَهْرَ الصَّحِيحَ فَلَا يَجِبُ لَهَا إلَّا الْمَهْرُ الصَّحِيحُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ فَقَبِلَتْ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا بِعِوَضٍ فَيَزُولُ مِلْكُهُ بِقَبُولِ الْعِوَضِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا، وَكَمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْقَبُولِ مَا لَمْ يُؤَدِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُرِّيَّةِ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ثُمَّ إذَا أَعْتَقَتْ بِالْقَبُولِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَإِمَّا إنْ أَبَتْ التَّزْوِيجَ فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا آخَرَ وَهُوَ مَالٌ سِوَى الْإِعْتَاقِ، فَلَهَا الْمُسَمَّى إذَا كَانَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ عَشَرَةً، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا سِوَى الْإِعْتَاقِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: صَدَاقُهَا إعْتَاقُهَا لَيْسَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْعِتْقَ بِمَعْنَى الْمَالِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَلَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالُ الْمَالِكِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِتْقُ مَالًا؟ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ هُوَ مَالٌ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.
وَكَذَا الْقِصَاصُ وَأَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ جَائِزٌ، وَنَفْسُ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ لَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ لَكِنَّهَا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا لِلْمَوْلَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِتَخْلِيصِ الرَّقَبَةِ، وَهَذِهِ حُرَّةٌ خَالِصَةٌ فَلَا تَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ رَقَبَتِهَا لَا بِنَفْعٍ يُقَابِلُهُ وَهُوَ تَزْوِيجُ نَفْسِهَا مِنْهُ، وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا- وَهُوَ إبَاؤُهَا- فَيُقَامُ بَدَلُ قِيمَتِهَا مَقَامَهَا؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ (السِّعَايَةُ إنَّمَا تَجِبُ لِفِكَاكِ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصِهَا- وَهِيَ حُرَّةٌ خَالِصَةٌ-) فَنَقُولُ: السِّعَايَةُ قَدْ تَكُونُ لِتَخْلِيصِ الرَّقَبَةِ وَهَذَا الْمُسْتَسْعَى يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ تَكُونُ لِحَقٍّ فِي الرَّقَبَةِ لَا لِفِكَاكِ الرَّقَبَةِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى قِيمَةِ رَقَبَتِك فَقَبِلَ حَتَّى عَتَقَ كَذَا هَذَا وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عِتْقِ أَبِيهَا أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا، فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ فِيهِ كَلِمَةً عَنْهَا بِأَنْ قَالَ: أَتَزَوَّجُك عَلَى عِتْقِ أَبِيك عَنْك أَوْ عَلَى عِتْقِ هَذَا الْعَبْدِ عَنْك وَأَشَارَ إلَى عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَذْكُرْ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ وَقَبِلَتْ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَالْوَلَاءُ لِلزَّوْجِ لَا لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ هُوَ الزَّوْجُ «وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا آخَرَ هُوَ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى فَلَهَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِقَبُولِهَا النِّكَاحَ فَإِذَا قَبِلَتْ عَتَقَ، وَالْعَبْدُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَالٌ مُسَمًّى وَجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا فَوَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَسْمِيَتُهُ الْعِتْقَ مَهْرًا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا.
فَأَمَّا إذَا ذُكِرَتْ فَقَبِلَتْ عَتَقَ الْعَبْدُ عَنْهَا وَثَبَتَ الْوَلَاءُ لَهَا، وَصَارَ ذَلِكَ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعِتْقَ عَنْهَا وَلَا يَكُونُ الْعِتْقُ عَنْهَا إلَّا بَعْدَ سَبْقِ الْمِلْكِ لَهَا فَمَلَكَتْهُ أَوَّلًا ثُمَّ عَتَقَ عَنْهَا كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْآخَرِ، وَحَالَ مَا مَلَكَتْهُ كَانَ مَالًا فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَهَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْعِتْقِ.
فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْإِعْتَاقِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ فَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ ذَكَرَ فِيهِ عَنْهَا وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَذْكُرْ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فَقَبِلَتْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ هاهنا بِقَبُولِهَا؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ أَنْ يُعْتِقَ، وَالْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ بِوَعْدِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِعْتَاقِ فَمَا لَمْ يُعْتِقْ لَا يَعْتِقْ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ هُنَاكَ كَانَ عَلَى الْعِتْقِ لَا عَلَى الْإِعْتَاقِ ثُمَّ إذَا أَعْتَقَهُ فَعَتَقَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ كَلِمَةً عَنْهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكُرْ ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهُ لَا مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ لَا مِنْهَا، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَهْرٌ آخَرُ مُسَمًّى وَهُوَ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ، بَلْ هُوَ إبْطَالُ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا، وَإِنْ ذَكَرَ كَلِمَةً عَنْهَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْهَا، وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِلْكًا لَهَا بِمُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا عَتَقَ عَلَيْهَا كَمَا مَلَكَتْهُ فَتَمْلِكُهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَصِيرُ الزَّوْجُ وَكِيلًا عَنْهَا فِي الْإِعْتَاقِ، وَمِنْهَا إذَا أَعْتَقَ كَمَا وَعَدَ فَإِنْ أَبَى لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُسَمًّى هُوَ مَالٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الْإِعْتَاقِ مَهْرًا لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يُوجَدْ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ آخَرَ هُوَ مَالٌ فَتَعَيَّنَ مَهْرُ الْمِثْلِ مُوجَبًا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا شَيْئًا آخَرَ هُوَ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهَا شَرْطًا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ فَلَا يَكُونُ غَارًّا لَهَا بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِمَا شَرَطَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا يَبْلُغُ بِهِ تَمَامَ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا رَضِيَتْ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا بِمَا شَرَطَ وَلَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً فَصَارَ غَارًّا لَهَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَقُلْ عَنْهَا فَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ عَنْهَا فَقَبِلَتْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَصَارَ الْعَبْدُ مِلْكًا ثُمَّ إنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا عَتَقَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا وَكَانَ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَكُونُ الزَّوْجُ وَكِيلًا عَنْهَا بِالْإِعْتَاقِ، فَإِنْ أَعْتَقَ قَبْلَ الْعَزْلِ فَقَدْ وَقَعَ الْعِتْقُ عَنْهَا، وَإِنْ عَزَلَتْهُ فِي ذَلِكَ صَحَّ الْعَزْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.